لو عاوز تفهم الشخصية دي فهم استراتيجي بدون ما تغرق في التفاصيل فياريت تركز معايا ٣ دقايق بس هقولك فيهم ابن تيمية عمل إيه:

١- ابن تيمية قدم جهد نقدي "تفصيلي" غاية في الدقة لأساليب الاستدلال العلمي والفكري السائدة في عصره من خلال نقده لمنطق أرسطو، وهذا أمر لو تعلم يا صديقي عظيم لأن منطق اليونان كان على رأس هرم القوانين العقلية والاستدلالية في هذا التوقيت ..
اوع يغيب عنك أن كلام ابن تيمية ده هيرجع العلم إلى مضمونه، وهيقول بيه كتير من الفلاسفة والعلماء اللي جاءوا بعد ابن تيمية بقرون كل من زاويته، زي فلاسفة العلوم التجريبية، وكل من يرى أن المنطق الصوري لا يفي بالاحتياجات العلمية كأصحاب المنطق الرياضي وغيرهم ..
يعني باختصار جهود ابن تيمية في هذا الباب تعتبر مفخرة للعرب والمسلمين جميعا، إضافة لكونها تصحيح لأسلوب الاستدلال على المعارف والعلوم ..

٢- أدت جهود ابن تيمية إلى تعزيز اليقين الإيماني من خلال إيجاد صيغة تعايش بين العقل والنقل ترتكز على تجاوز الخرافات والأوهام في كلا الجانبين بعد أن وقع كثير من العلماء في فخ تعارض النقل مع العقل أو العلم ..
فاعتمد ابن تيمية صيغة توفيقية قائمة على التوافق بين (صحيح المنقول)، و(صريح المعقول ) ..
بمعنى أنه لا بد من تصحيح المنقول بالرجوع لقواعد النقد الحديثي لأن كتير من النقل المتصور معارضته لقطعيات العقل منسوب للدين خطأ رغم ضعف سنده .. بينما كتير من الأحكام العقلية التي يعتقد معارضتها للنقل ليست صريحة بل هي مجرد ظنون وتوهمات وتحكمات تعاني من خلل في بنيتها الاستدلالية ..
فرأى ابن تيمية "ورؤيته ريادية في هذا الباب" أن الفحص الكافي للدليل في كلا الجانبين سيؤدي إلى تهذيب الاستدلالات، من خلال اعتماد الدليل القطعي منهما وحينها هيبقى من السهل رد الظني إلى القطعي سواء كان عقليا أو نقليا ..

٣- تدعيم الثقة بعقائد السلف "كالصحابة والتابعين وأتباعهم ومن سار على نهجهم كالأئمة الأربعة" بعد أن كان كثير من "العلماء" وليس العامة يعتقدون سذاجة أطروحات السلف، وأنهم آثروا السلامة وفقط .. فجاء ابن تيمية ليبين العمق العقلي لعقيدة السلف، وأصولها السليمة، ولوازمها المطردة .. فالفكرة العميقة قد يعبر عنها بكلام بسيط ..

٤- إحياء الاجتهاد الفقهي لمعالجة مشكلات الواقع بعد أن سكن الفقهاء أنفسهم إلى ترديد مقولات إغلاق باب الاجتهاد وأنه لا يوجد بعد عصر الأئمة مجتهد لا مطلق ولا حتى منتسب ..
فجاء ابن تيمية لينفض الغبار عن آراء السلف وعلماء القرون الأولى ويبين أن الفقه -حتى داخل المذاهب نفسها- أوسع من المقولات التي تدور حولها الفتاوى السائدة .. فقدم مجموعة من الآراء والاختيارات في مسائل المعاملات المالية والأوقاف والوصايا والطلاق لا يزال الفقهاء يدورون حولها ويرجعون إليها إلى يومنا هذا في دور الفتوى والمجامع الفقهية .. والغريب أن الغالبية الساحقة لهذه الاختيارات لم يخترعه ابن تيمية، بل هي آراء مثبتة في التراث الفقهي لكنها كانت بعيدة عن المزاج الفقهي السائد حيث التمحور غالبا حول رأي واحد في الفتوى داخل كل مذهب .. فعمد إلى تلك الآراء الفقهية هذا الإمام الفذ فاستخرجها بعد غور ونفض عنها غبار التهيب والجمود ..

٥- قام بحل المعادلة الصعبة، وقدم بنفسه نموذج عملي في الجمع بين عبادات الظاهر والباطن، وفي التعايش والتوازن بين التعبد والتفقه والإصلاح في شخص واحد هو ابن تيمية نفسه .. كما سخر قلمه لإثبات صلاحية التوجيهات النبوية، والتطبيقات السنية وكفايتها كمنهج تربوي في إصلاح النفوس والقلوب من غير حاجة لخرافات وطرائق بعض المتصوفة والصالحين الذين زادوا على السنة ترتيبات وأوضاع مبتدعة وقاصرة ..

٦- ثم يأتينا المشهد الأخير، مشهد ابن تيمية الإنسان ..
السبب "الرئيسي" اللي خلى ابن تيمية له أعداء كتير أنه في كل نقطة من النقاط السابقة كان بيكسر تابوهات ضخمة قامت على غير أساس في عقول المتدينين -وكثير من العلماء قبل غيرهم للأسف- .. وده تحديدا هو المورد الرئيسي لمعارضة ابن تيمية، فكل من ضاق صدره عن استيعاب طفرات وحجج هذا العالم الفذ انضم إلى خانة المعارضين .. وهنا يأتي المشهد الإنساني الأعظم في حياة هذا الإمام العلم وتحقيقه المعادلة "الأصعب" لدى البشر ..
أن يظلموك وتسامحهم، أن ترفض أقوالهم وتخطئهم ومع ذلك لا تفقد احترامك لهم ولا ثناءك عليهم !
أي شخص هذا ؟! ينقد فكر الباقلاني وتأصيلاته العقائدية نقدا مرا، فإذا تعرض لشخصه أثنى عليه وفخم شأنه .. يزيف أفكار المعتزلة، ولا ينسى جهودهم في مجادلة الملل الأخرى ودعوتهم إلى الإسلام .. قلم منصف ولسان عادل ونفس سوية بعيدة عن الأحقاد ..
يقول ابن القيم: (وما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم .. وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له؛ فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسُرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه) ..

ليس المقصود طبعا وصفه بالعصمة، ولا تصويب كل آرائه، فهو بشر يصيب ويخطيء، لكن المقصود بيان تميزه وسبقه في كثير من جوانب العلم والتدين والإصلاح لدرجة أن كثير من العلماء ذكروا أنه لم يظهر على ساحة العلم مثيل له في الألف سنة الأخيرة، فحري بمن كان هذا شأنه أن يصان عرضه عن سفاهة السفهاء لأن العلماء ورثة الأنبياء ..
فرضي الله عن هذا الإمام العلم، ونفعنا بعلومه في الدارين ..